قضيّة الإلهام: حقيقة أم طيف من الخيال؟
عبد الحفيظ أدينييي أحمد أديدميج (أبو القيم)
مسؤول كليّة الإنسانيّات الإداريّ، جامعة الحكمة، إلورن، نيجيريا
abdulhafeezmeji@yahoo.com & abdulhafeezadedimeji@gmail.com
تقديم
الحمد لله الذي خلق النفس وسوّاها، فألهمها فجورها وتقواها، والصلاة والتسليم على من هُدِيَ به أعين عمي، وآذان صمّ، وقلوب غلف، محمّد بن عبد الله، وعلى آله أصحاب الأدب، وأصحابه أرباب الأرب. أما بعد:
فهذه سطور قليلة حاولت فيها معالجة قضيّة من أكثر القضايا النقديّة تعقيدًا، غصت من أجلها بطون الكتب القديمة والحديثة قدر ما سمح لي الوقت المتاح لكتابتها. ولقد سعيت جهدي أن يكون البحث مختصرا– ومع ذلك– ملمّا بأطراف القضيّة. كما تُنُووِلتْ عبر التاريخ ودُرست لدى الأمم.
هذا، والسبب الدافع إلى الخوض في قضيّة الإلهام هو أنني لاحظت أنّه-على الرغم من شهرة القضيّة وحساسيّة طبيعتها وعنايتي بالاطلاع على الكتب النقدية قديمها وحديثها ألم أجد أحدًا- حسب علمي-أفرد لها التأليف، وخصّص لها البحث، فكل هذه المراجع والمصادر لم تعط الموضوع ما يستحقّه من العمق وسبر الأغوار، ولم يُلمّ أصحابها بأطراف القضيّة كما ينبغي، بل لا يتجاوز صنيعهم إلاّ أن يلمسوها لمسًا خفيفًا، أو يذكروها ذكرًا عابرًا لا يشفى منه العليل، ولا يرتوي منه الغليل. ولسدّ هذه الثغرة انبعثت والحقّ – بناءً على ما سلف ذكره– أنّ من شأن الدراسات المبتكرة أن يعتورها شيء من عدم الشمولية وفقدان الإحاطة، فإن وُفِّقْت في شيء منه فالحمد والثناء لله الملهم الإنسان رشده وحده، ولولا حرصي على الإسهام في خدمة الأدب والنقد ما استطعت، وتعميق البحث وتعميم الفائدة ما وسعني، لولا ذلك كلّه ما سبحت في هذا البحر، وما ولجت في هذا الغور. أمّا عن زَلِّ القلم – ومَن مِن البشر لا يزلّ قلمه؟!- فحسنٌ قصدي وجدٌّ سَعْيِي، والمجتهد– إن أخلص النّية– مأجور على كلّ حالٍ.
وقد قسّمت البحث إلى مدخل، وثلاثة فصول، وخاتمة
1- مدخل: في ماهيّة الإلهام.
2 – فصل: دهشة القدماء وحيرتهم في تحقيق الإلهام.
3 – فصل: حقائق توصّل إليها الإسلاميون في مسألة الإلهام.
4 – فصل: دور علم النفس الحديث في دعم موقف المسلمين.
5 – خاتمة: وتشتمل على النتائج الّتي توصّل إليها البحث والتّوْصية تجاه القضيّة.
والله أسأل أن يغفر لي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر، وأن يتمّ عليّ نعمته، ويَهديني صراطا مستقيما، فله الحمد في الأولى والآخرة.
(مدخل: في ماهية الإلهام)
من العسير جدّا– إن لم يكن من المستحيل– تحديد مصطلح الإلهام بتعريف جامع مانع يجلّيه حقيقة التّجلية. ذلك لأنّ “الإنسان مذ بدأ يتفنّن، أو -بتعبير أصحّ مذ بدأ أفراد في مجتمعه يتفنّنون، وظاهرة الإبداع الفني تثير انتباهه وتدفعه إلى محاولة تمييزها، والكشف عن طبيعتها وبواعثها“.1
ومن ثمّ لم يجد بدّا سوى أن يعزو قدرة الإبداع التي هالته إلى الإلهام، فهو في الحقيقة –كما سيتبيّن لنا من خلال الدراسة– أحد بواعثها بلا خلاف. وهل هو الباعث فحسب؟ فما معناه؟ فما مستمدّه؟ فما حدوده؟ هل الشاعر في عمليّة الشعر يُوحَى إليه فينفث في روعه ما يقوله أم يكدّ في سبيل ذلك قريحته كدّا؟ فالإجابة عن هذه التساؤلات قد انقلبت إلى ظاهرة حيّرت الألباب، وزلزلت الأقلام، وهذا ما سنعرضه مفصّلا فيما بعد في هذه الأوراق المعدودات. فغاية ما نفعله هنا أن أقرّب مفهومه إلى الدارسين مستنيرا بما حوته جهود الباحثين في هذه القضيّة.
أمّا الإلهام من حيث اللّغة فيدلّ على الالتقام، وهو ابتلاع الشيء، ثمّ توسّع في معناه فاستعمل فيما يلقى في الرّوع فيلتهمه الملهَم.2ومنه قوله تعالى: (ونفس وما سوّاها؛. فألهمها فجورها وتقواها).3 ومن هنا نعلم أن الشيء المُوقَع في القلب (أي: الملهم به) قد يكون خيرا، وقد يكون شرًّا.
هذا، وقد غلب استعماله في الخير دون الشّرّ حتّى عرّفه اللّغويّون المحدثون بأنّه “إيقاع شيء في القلب يطمئنّ له الصّدر، يخصّ الله به بعض أصفيائه“. وقيل هو: “ما يلقى في القلب من معان وأفكار“.4
ولعلّ المعنى الأخير أقرب إلى مفهومه في البحث النقديّ الذي يرى بعض المتخصّصين فيه أنّه “حبّ الفكرة والهيام بها، والمثابرة الجادّة طلبا لما هو جدير أن يقال، وحبّ العاطفة التي هي عاطفتنا“.5
هذا، وقد جزم آخرون أنّه “أساس لا بدّ أن يوجد لدى الأديب أوّلا، وإلاّ ضاعت محاولاته سدى، وذهب ما يقوله عبثا، ولم يكن لقوله هذا الصدى الذي يرجعه الزمان، وتردّده جنبات الأرض في كلّ مكان“.6
وأيّا ما كان الأمر، فإنّ الإلهام عدة الأديب ومنبع عمله الأساسيّ شاعرا كان أو ناثرًا، إلا أنّهم عُنوا بدراسته عند الشاعر في المقام الأوّل. فماذا خلفت لنا دراسة الأوائل في هذه الظاهرة الشائكة؟
فصل: دهشة القدماء وحيرتهم في تحقيق مصدر الإلهام
ليس العرب متفرّدين في الانشغال بحقيقة الإلهام والبحث عن منبعه، وإنّما قد سبقهم اليونان – فيما سجّله التاريخ– إلى ذلك. ولعلّ أوّل من أفاض الكلام في هذه القضية أفلاطون (429-347ق.م) في محاوراته التي عنوانها “إيون Ion“. فنجده في ذلك يبالغ في حقّ الشعراء مبالغة شديدة حتّى إنّه ليجعلهم في مرتبة الأنبياء الأصفياء، بل يثبت لهم شيئًا من القداسة حيث أثبت أنّ الشاعر:
كائن أثيري مقدّس ذو جناحين، لا يمكن أن يبتكر قبل أن يلهم، ويفقد في هذا الإلهام إحساسه وعقله. وإذا لم يصل إلى هذه الحالة فإنّه يظل غير قادر على نظم الشعر أو استجلاء الغيب. وما دام الشعراء والمنشدون لا ينظمون أو ينشدون القصائد الكثيرة الجميلة عن فنّ، ولكن عن موهبة إلـهية، لذلك لا يستطيع أحد منهم أن يتقن إلا ما تلهمه إيّاه ربّة الشعر… لذلك يفقدهم الإلـه شعورهم ليتخذهم وسطاء كالأنبياء والعرّافين الملهمين، حتّى ندرك– نحن السامعين– أنّ هؤلاء لا يستطيعون أن ينطقوا بهذا الشعر الرائع إلا غير شاعرين بأنفسهم، وإنّ الإلـه هو الذي يحدّثنا بألسنتهم.7
ويتبيّن لنا من الفقرة السالفة أنّ أفلاطون سبق إلى حقيقة نقديّة لم يخالف فيها إلى يومنا هذا. ألا وهي تقريره أنّ الشاعر “لا يمكن أن يبتكر قبل أن يلهم”. أمّا تصريحاته فيما وراء ذلك فموضع نقاش عند كثير من المحقّقين، فهو يرى أنّ الشاعر “مقدّس ذو جناحين”، وأنّه خلال قرضه للشعر يفقد “إحساسه وعقله”، فهو يجعل نظم الشعر كـ”استجلاء الغيب”. ثمّ يضطرب بعد ذلك اضطرابًا شديدًا حيث جعل مصدر الشاعرية “موهبة إلهية” ليعدل بعد ذلك إلى أنّ الشاعر لا “يتقن إلا ما تلهمه إيّاه ربّة الشعر”، وينتهي بزعمه أنّ “الإلـه هو الذي يحدّثنا بألسنتهم”.
ونلاحظ أن الشاعر على اعتقاد أفلاطون يرتقي إلى درجة الإله على أعلى تقدير، وإلى درجة النّبيّ على أقلّ تقدير. والإلهام على حدّ مفهوم موقفه – بناءً على النّصّ السالف الذكر– وحي أو قبسٌ من عالم الغيب. وذلك إن تغاضينا عن الاضطرابات الملحوظة في موقفه، على ما سبقت الإشارة إليه.
وإعجاب اليونان بفلسفة أفلاطون– ومن قبله أستاذه سقراط (ت 399ق.م)– هو الذي حملهم إلى تبنّي فكرة ربّة الشعر، وإلى الولوع بتفصيل هذه الفكرة، بل يثبتون عدة أسماء لا ربّة شعر واحدة، كما قرّره أفلاطون. فمصدر الشعر– على ما يرون ويروون– ربّات شعر عديدة.نقل عنهم أنّهم كانوا “يعتقدون أنّ ربات الشعر هؤلاء هنّ ملهمات الشعراء ومعلماتهم القصيد وما ينبغي له. وربما ذكرت إحداهنّ أنّها القائمة بالعملين جميعا، ولكنّ شيئا محقّقا لم يرو عن عددهنّ وأسمائهن. وقد ذكر الشاعر “هزيود” أنّهنّ تسع، وأنّهنّ بنات الإلـه “زيوس” وكذلك نصّ على أسمائهنّ. وهي: كليو، يوتيرب، ثاليا، ملبومين، بريسيكور، إراتو، بوليهيمنا، أورانيا، وكلبيو”.8
هذا، وعلى غرار اليونان مشى الرّومان في نظرية الإلهام، وذلك أنّ هؤلاء من ثقافة أولئك استقوا وارتووا.
فوجدناهم يسايرونهم في النظر إلى الإلهام في الشعر. ويردّون هذا الإلهام إلى الآلهة. ويكبّرون من شأن الشاعر، ويحسمون عائدته على الجماعة، ومن ذلك ما قرّره هوراس من أنّ الشعراء قد اكتسبوا بين الناس لقب الألوهية وشرفها.9
أمّا العرب القدماء فقد ردّوا الإلهام إلى الشياطين طورا وإلى الجنّ طورا آخر. وقد وجدناهم يثبتون أنّ لكلّ شاعر شيطانا يلهمه. ونحن نرى في تُراث العرب الشعري ما يثبت هذا الاعتقاد. وقد عقد الجاحظ في كتاب الحيوان بابًا عَنْوَنَهُ بـ(شياطين الشعراء)، وقال في مطلعه: “فإنهم يزعمون أنّ مع كلّ فحل من الشعراء شيطانًا يقول ذلك الفحلُ على لسانه الشعر”10. ثمّ عقب ذلك بذكر عدّة أسماء من الشياطين يلهمون فحول الشعراء شعرهم.11 ومن ذلك قول الراجز:
إنّـي وإن كنت صغير السّنّ ** وكان فـي العـين نبوٌّ عنّي
فإنّ شيطانـي كبير الجـنّ** يذهب بي–في الشعر–كلّ فنّ
حـتّى يزيـل عـنّي التّظنّي
بل ذهب بهم خيالهم بعيدًا حتى جعلوا “الشياطين قبائل، كقبائل العرب، ومن ذلك أن شيطان حسّان بن ثابت كان من بني الشيصبان، كما يقول حسّان:
إذا مـا تـرعرع فينا الغلام** فمـا إن يقال له من هوه
إذا لـم يسد قـبل شقّ الإزار** فذلك فينا الـذي لا هوه
ولي صاحب من بني الشيصبان** فطورا أقول وطورا هوه12
ولسنا نشكّ أنّ هذه الأبيات– إن صحّت نسبته إلى حسّان رضي الله عنه– فهي ممّا قاله قبل إسلامه، إذ قد أثبت النقاد أنّ حسّانا قد كثر في شعره الوضعُ، وحمِّل ما لم يحمّل أحدٌ من الشعراء13 وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، فهي شهادة قويّة على اعتقاد العرب وفهمهم للإلهام.
وحسّانٌ هنا يقرّر ثلاثة أمور: أوّلها أنّ له صاحبًا غير إنسيّ، وثانيها أنّ هذا الصاحب ينتسب إلى الشيصبان، (وبنو الشيصبان إما أن يكونوا أبناء جنيّ يعرف بهذا الاسم أو يكون اسم قبيلة من قبائل الجنّ)، وآخرها أنّ حسّانا وشيطانه يتناوبان القول، فتارة يقول حسّانٌ وتارّة يقول شيطانه. ولعلّ من الطريف أن نعرف أنّ أحدهم قد افتخر بأنّ “شيطانه ذكر وشيطان الآخرين أنثى، والذكر أقوى، وليس كالأنثى:
إنّي وكلّ شاعر من البشر شيطانه أنثى، وشيطاني ذكر14
ولم يكتف العرب بذكر هؤلاء الجنّ أو الشياطين الذين يلهمون الشعراء. ولكنّهم سموهم بأعلامهم، فقد كان للأعشى “مسحل”، ولفرد بن قطن “جهنام”، ولبشار “سنقناق”، إلى غير ذلك من الأسماء.15
وإذا عرفت هذه الحقيقة بطل العجب من جعلهم النّبيّ– صلى الله عليه وسلّم– معلَّما من قبل قوة لم يحدّدوها، وخالوه مجنونا في أوّل عهده بالرسالة. وتلك الحكاية هي التي وردت في قوله تبارك وتعالى: (أنّى لهم الذكرىوقد جاءهم رسول مبين؛. ثمّ تولّوا عنه وقالوا معلّم مجنون).16 بل جعلوا القرآن الكريم– لروعته وبلاغته وعدم قدرتهم على أن يأتوا بمثله– شعرا، ويصرّحون على ما حكي عنهم القرآن الكريم أنّ النبيّ– عليه الصّلاة والسّلام– شاعر مجنون (والمجنون– فيما يعتقدون– من يمسّه الجنّ أو يتعامل مع الجنّ، وليس من زال عقله). وذلك هو الذي حكاه الله سبحانه في الذكر الحكيم قائلا: (ويقولون أئنّا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون).17 ووصف الشاعر بالمجنون هنا يدلّ دلالة واضحةً أنّ مرادهم بالكلمة – أي المجنون– من مسّه الجنّ، حتّى استطاع أن يقول ما يُستغْرب ويستطرَفُ من القول الرّائع، لا مَنْ زال عقله؛ وذلك إذ يستحيل أن يكون زائل العقل شاعرًا.
وقد ردّ عليهم الحقّ عزّ وجلّ في افترائهم الأوّل بقوله: (وما صاحبكم بمجنون)،18 وقوله: (ما أنت بنعمة ربّك بمجنون).19 وردّ عليهم في بهتانهم الثاني بقوله: (وما علّمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلاّ ذكر وقرآن مبين).20
وخلاصة فهم العرب الجاهليّين للإلهام أنّه قوّة أصيلة لا يمتلكها إلاّ العبقريّ. والعبقريّ نسبة إلى موضع يقال له “عبقر”. وهو:
قرية تسكنها الجنّ فيما زعموا، فكلّما رأوا شيئًا فائقا غريبا ممّا يصعب عليه ويدقّ أو لاحظوا شيئًا عظيما في نفسه نسبوه إليه فقالوا:“عبقريّ، ثمّ اتّسع فيه حتّى سمّي به السّيد الكبير”.21
نعم، إنّ الإلهام والعبقريّة عند القدماء وجهان لعملة واحدة.
فالعبقرية إذن من الظواهر الخارقة عند الناس، فقد ردّوها إلى قوى فوق الطبيعة ولم يلتمسوها في نفوس أصحابها المعبّرين عنها بالإبداع في الشعر وسائر الفنون، وإنّما التمسوها بين الأرباب والشياطين والجنّ، وتوسّلوا إلى تفسيرها بعقد صلة أو صلات بينها وبين حميان الخمر وهذيان السكارى وتخليط المجانين.22
فالربط الشديد الذي أوجدوه بين السكران والجنون من ناحية والشاعريّة من ناحية أخرى منذ القدم هو الذي حمل إبراهيم عبد القادر المازني على أن يقول:
ثلاثـة روضهم بـاكر الصّبّ والمجنون والشاعـر
ولعلّ من الخير أن نختم هذا الفصل ببيان ما يعنيه القدماء بالشيطان– الذي استعملوه مرادفا للجنّ في بعض أشعارهم–
فالشيطان هو الجنيّ، أي الرّوح المستترة… ومعلوم أنّ من العرب من كانوا يعبدون الجنّ، ويجعلونه شركاء لله، بيدهم الضّرّ والنفع، والخير والشّرّ، والجنّ بهذا المعنى مرادفة للشياطين خيرة أم شريرة، ثمّ اكتسبت كلمة الشياطين معنى أرواح الشّرّ بعد ذلك،.وبخاصة بعد استقرار الإسلام.23
وخلاصة القول أنّ مردّ الشعر ومصدره عند القدماء قوّة خارجيّة هي إمّا ربات الشعر (أو الآلهة) أو شياطين أو جنّ. وبربات الشعر والآلهة قال اليونان، وبالشياطين والجنّ قالت العرب، كما أثبتنا بالنقول الصّريحة.
فصل: حقائق توصّل إليها الإسلاميّون في قضيّة الإلهام
ولئن بقي أمر الإلهام عند الباحثين الأقدمين– كما رأينا في الفصل السابق– غامضا مشبوبا، فلقد اهتدى النُقَّاد والأدباء المسلمون– منذ العصور الإسلامية الأولى– إلى كشف النقاب عن بعض ما عزاه سلفهم إلى العبقرية أو الجنّ أو الشيطان. نعم، قد يعذر أفلاطون ومن تبعه من اليونان والرومان في تخميناتهم وتخييلاتهم، قد يعفى عن الجاهليّين غير الشعراء في فرط تقديرهم للشعر حتّى جعلوه إلهيّا أو شيطانيًّا، لكنّنا لا نفهم كيف طاب للشعراء أن يزيدوا الناسَ غيَّا، وذلك حين أقرّوهم في وهمهم، والذهاب إلى أنّ لهم في الحقيقة شياطين يوحون لهم زخزف القول، وجنّا ينفثون في روعهم الشعر، وهم على يقين أنّهم في ادّعائهم لكاذبون!
ولا نكاد ندخل في العصر الإسلاميّ حتّى وجدنا فحول الشعراء يعترفون أنّ منبع شعرهم ليس إلاّ حفظهم ومعايشتهم للنصوص الشعرية التي خلفها القدماء، إضافة إلى استعدادهم الفطريّ لتقبّل صفة الشاعريّة. وهذا هو الفرزدق– وهو من هو– لا يتحرّج في أن يثبت هذه الحقيقة في قصيدة طويلة منها:
وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا** وأبو يزيد وذو القروح وجرول
والفحل عـلقمة الذي كانت لـه** حلل الملوك كلامه لا ينـحـل
وأخـو بنـي قيس وهـنّ قتلنـه** ومهلهل الشعـراء ذاك الأوّل
والأعشيان كـلاهمـا ومـرقّش** وأخو قضاعـة قولـه يتمـثّل
وأخو بني أسد زهـير وابـنـه** وابن الفريعة حـين جدّ المقوَل
والجعفريّ وكــان بشـر قبـله** لي من قصائـده الكتاب المجْمَل
ولـقد ورثت لآل أوس مـنطـقا** كالسّمّ خالط جانبيه الحنظـل
والحـارثيّ أخـو الحماس ورثتـه** صدْعا كما صدع الصفاة المعْوَل
والفرَزدق يذكر فيما أُسْلِفَ أنّه كان يروي لاثنين وعشرين شاعرا من الجاهليين والمخضرمين، وأنّهم –بروايته لشعرهم– هم الذين وهبوا له الشعر، وأنّ كثيرا منهم “قوله يتمثّل”، ولما ذكر بشرًا أردف أنّ له “من قصائده الكتاب المجمل”. فالنتيجة–إذن– أن لا شيطان، ولا جنّ، ولا عبقر، ولا اجتلاء للغيب!
وإذا تقدّمنا قليلا إلى العصر العباسيّ – عصر ازدهار الثقافة العربيّة في شتّى مجالاتها – رأينا شاعرا في قامة أبي العلاء المعريّ يقرّ في أكثر من بيت شعر أنّه لا يملك فيما يملي عليه قريحته إلاّ الظّنّ والحدس. فقد قال مرّة:
أمّا اليقـين فـلا يقـين وإنّما أقصى اجتهادي أن أظنّ وأحدسا!
وقال مرّة أخرى:
سألتموني فأعيتني إجابتكم من ادّعى أنّه دارٍ فقد كذبا
ونجده أعلى رغم ما قيل عنه من رقّة الدين– يوكّل الأمر إلى الله، وأن لا علم لغيره سبحانه في بيت ثالث يقول فيه:
والناس في تيه بـلا أمر والله يفصل عنده الأمـر
أقول لو أنّ للشاعر أن يدعيّ لشاعريّته الوحي والنفث الربانيّ أو القوّة الخارقة لكان المعريّ ذلك الشاعر. وكيف لا وهو الذي سلك بنفسه طريقا وعرًا في إبداع الشعر، وأحدث بذلك انقلابا لا يطيقه غيره في تاريخ الأدب العربيّ حتّى اشتهر فنّه هذا باللزوميات أو لزوم ما لا يلزم؟!أليس هو الذي امتلأ تراثه الشعري حكما وعبرا وتجارب حتّى لقّب – بجدارة – فيلسوف الشعراء؟ ألم يذهب به خياله في “رسائل الغفران”إلى أن يوهم– أو يتخيّل بالتعبير الأصحّ– أنّه يطلّ على عالم الغيب؟ وإذا قال شاعر تُحسب له هذه الحسابات كلّها أنّ صنيعه ضرب من ضروب الظّنّ والحدس فَمَن غيرُه يُصدّق إن قال إنّ عمله قبس من الوحي أو إيحاء من الجنّ؟
وبهذه المناسبة أثبت ما قاله أحد أعلام النقد الحديث معلّقا على داليّته الشهيرة المفتتحة بقوله:
غير مجـٍد في ملّتي واعتقادي نوح باك ولا ترنّم شاد
فإنّنا نقف خشعا أمام شعور إنسانيّ عميق، وأمام تعبير تصويريّ موح، يزحم المشهد بالصّور والظلال، ويهمس فيه بالوجدانات والأحاسيس، ويرتفع إلى الطراز الأوّل من الشعر الإنسانيّ بكلّ قيمه الشعورية والتعبيرية. ولا يفوتني أن أنبّه خاصّة إلى الإيقاع الموسيقى في كلّ بيت.ومع أنّ الأبيات كلّها من وزن واحد إلاّ أنّها تختلف إيقاعا، لأنّ الوزن وحده لا يحدّد لون الإيقاع.24
ولقد أوردت كلّ هذا لأثبت أنّ للإسلام الفضل الأوّل في إفحام الشعراء في تضليلهم، وإزالة اللّثام عن حقيقة الإلهام، وفي الإثبات أنّ للنقاد المسلمين سعيا مشكورا في تسجيلهم سرّ تفتّق الشعر على ألسنة الشعراء. وقد نصّ صاحب الأغاني على سلسلة من هؤلاء الشعراء الرّواة الذين يأخذ بعضهم عن بعض، وقد بدأها بأوس بن حجر التّميميّ، فعنه أخذ الشعرَ ورواه حتّى أجاد نظمه زهيرٌ بن أبي سلمى المزني، وكان له راويتان كعب ابنه والحطيئة، وعن الحطيئة تلقّن الشعر ورواه هُدبةُ بن خشرم العذري، وعن هدبة أخذ جميل صاحب بثينة، وعن جميل أخذ كثيّر صاحب عزّة.25
وإثبات هذه الحقائق من حسنات كتاب الأغاني في تأريخه للأدب. فإذا تشبّثنا بظاهر هذه الرّواية قلنا بأنّ التلمذة بيد شاعر مجيد واستعاب نتاجه الأدبيّ هو الملهم الأوّل للشعراء، ولا نريد أن نبعد إلى هذا الحدّ. ويكفي لهذه الحقيقة أن تذيب لغز الجنّ أو وادي عبقر وما يعلّمانه الشعراء ممّا شاع وساد عند الجاهليّين:
ولو أنّ الرّواة لم يرووا لنا هذه الصلات الجامعة أو الرابطة بين الشعراء الجاهليّين لحدسناها حدسا من اتّفاقهم على تقاليد فنيّة واحدة، مهما شرّقنا وغرّبنا في الجزيرة، وهي تقاليد جاءت من تمسّكهم بنماذج أسلافهم لا يحيدون عنها ولا ينحرفون، فهي دائما الإمام المتّبع، وهم كلّ شاعر أن يتقن معرفته عن طريق ما يحفظ من شعر أستاذه وشعراء قبيلته.26
والقرآن الكريم – ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه– قد أحدث في نظريّة الإلهام شيئين هما في منتهى الأهميّة في دراسة هذه الظاهرة. أوّلهما أنّه جعل الإلهام الحقّ منوطا بمصدر إلهي، وهو إلهام النبوة –أو ما يسمّى على وجه التحقيق بالوحي–، وإلهام الصالحين من الشعراء الذين يؤيّدهم “روح القدس” –كما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم لحسّان رضي الله عنه في الرواية المشهورة. ومفهوم هذا أنّه أكد بطريقة غير مباشرة انتماء إلهام الشعراء غير الصالحين إلى عالم الشياطين. والثاني أنّه جعل لكل إنسان شيطانا يوحي إليه بالباطل والشر، (وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم).27 فنزع عن الشعراء ما كانوا يظنّون أنهم متميّزون فيه؛ وذلك حين قرن لكلّ إنسان شيطانه الخاصّ به.28
بقي هناك سؤال يطرح نفسه في الساحة، ويفرض نفسه على الأذهان، وهو: هل هذه الحقيقة غائبة عن الشعراء الأقدمين؟ فكون الجواب “لا”من البداهة بحيث لا ينكر. ولماذا ذهبوا في معمعة النّاس في حكاية الجنّ والشيطان؟ يرى إدحار الآن بو “أنّ كبرياء الشعراء هو الباعث لهم على عدم اعترافهم بما يعانون في صنعة الشعر. فهم لا يصفون ذلك الجهد، ليتركوا الآخرين يفهمون أنّهم ينظّمون عفو الخاطر”.29
ومن هنا توصّل الباحثون إلى أنّ عمليّة الإبداع الفنّيّ ليست في الواقع عمليّة مفاجئة بالنسبة للشاعر، بل إنّه يكون مستعدّا لها نفسيًّا وذهنيّا بطريقة شعورية أو لا شعوريّة، وأنّ المادة التي يجري الإلهام بها قلمه هي نتاج قراءاته القديمة وتأمّلاته، والصّور التي يتضمّنها إنتاجه الفنيّ لا بدّ أن تكون مخترنة في ذاكرته”.30
وليس يعني هذا كلّه أنّ دارسي الأدب الإسلاميّين– أقدميهم ومحدثيهم– ينفون الإلهام جملة وتفصيلا. أمّا المنفيّ عندهم هو وجهة نظر الأدباء والنقاد الجاهليّين –عربهم وعجمِهِمْ– على حدِّ سواءٍ له.
(الجنون المقدّس) و(الجنون الإلـهي) المرادفان للإلهام ممّا توصف به العبقريّة، فكلّها غريبة عن الأدب، ولا جدوى منها له في شيء، ولكن الذي ليس غريبا للأدب هو الإلهام بالمعنى الآخر.31
فصل: دور علم النفس الحديث في دعم موقف المسلمين
فالمحصول من القول هو أنّه وإن كان لا بدّ للشاعر قبل أن يوجد شعرا خالدا من إلهام فلا بدّ لهذا الإلهام من تربة ينبت عليها، فإذا استوت شجرته على سوقه في صدر الشاعر ألف السامع والقارئ منه شعرا رائعا تهوله روعته. والإلهام ومنبته هو الذي حاول الإمام عبد القاهر الجرجاني أن يضع يد الفنّان المتذوّق عليه حيث قال:
ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة، ويأتيك منه ما يملأ العين غرابة حتّى تعرف من البيت الواحد مكان الرجل من الفضل، وموضعه من الحذق، وتشهد له بفضل المنّة وطول الباع، وحتّى تعلم إن لم تعلم القائل أنّه من قبل شاعر فحل، وأنّه خرج من تحت يد صنّاع، وذلك ما إذا أنشدته وضعت فيه اليد على شيء فقلت: هذا هذا. وما كان كذلك فهو الشعر الشاعر، والكلام الفاخر، والنمط العالي الشريف، والذي لا تجده إلاّ في شعر الفحول البذل ثمّ المطبوعين الذين يلهمون القول إلهاما.32
ثبت مما أسلفنا أنّ الإلهام المَرْضِيّ نوع من أنواع الإبداع لأنّ “عمليّة الإبداع لا تتّخذ صورة واحدة عند جميع الشعراء، بل إنّ لها أربع صور– كما يقول دي لاكروا: “الإبداع المفاجئ (الإلهام)، الإبداع البطيء، الإبداع اليقظ الشعوري، الإبداع الخاضع لحكم العادة”.33
أمّا الإلهام المتقّطع الذي يأتي الأدباء متثاقلا فهو الذي سمّاه دي لاكرو بالإبداع البطيء، خلافًا للإبداع الذي يهجم على صاحبه جملة واحدةً، ويتكون من أثره عمل أدبيّ كامل. وإن أردت مثالاً للنوع الثالث الذي هو الإبداع اليقظ الشعوري فاقرأ قول الدكتور طه حسين حيث يقول:
كنت منصرفا عمّن كان معي وعمن كان من حولي إلى هذا الغدير، أسمع خريره وأبتهج به، وما هي إلاّ دقائق حتّى أنسيت كلّ شيء، وحتّى اقتنعت بأنّي لا أسمع خرير الماء، وإنمّا أسمع نجوى المحبّين. لا أقصد إلى خيال ولا إلى شعر، وإنّما أذكر ما أحسست، وما وجدت، كما أحسسته وكما وجدته، نعم، كنت مقتنعا بأنّي أسمع في الماء المنحدر حديث المحبّين، وكان هذا الحديث مختلفًا باختلاف انحدار الماء قوّة وضعفًا: هنا ينحدر الماء في قوّة، وينزلق على جماعة من الصّخور قائمة، فتسمع لانحداره أصواتا مختلفة مرتفعة في اعتدال، وما هي إلاّ أن تتمثّل الحبيبين في ثورة ولوعة واضطراب وعتب وخصام، ثمّ تمضي فإذا مجرى الغدير قد لان واعتدل، وإذا الماء يمشي عليه هيّنا ليّنا، وإذا خريره هادئ رفيق، وإذا أنت تتمثل هؤلاء المحبّين وقد هدأت ثورتهم، وبردت لوعتهم، وانصرفوا عن الخصومة والعتاب إلى هذا النحو من الرّضا.34
والإبداع الخاضع لحكم العادة هو الناتج عن خبرات الكاتب الإجتماعية، وتشمل هذه الخبرات ما يُشاهده في بيئته، وما يطلع عليه من كتابات الآخرين. ويقبل منه ما فجّره في فكره ما اطّلع عليه من نتاج الآخرين ما دام قد تصرّف فيه تصرّفا لبقا، وأجاد في مخالفته في تصويره. وتأثر اللائق بالسابق أمر مألوف في الأدب ومأنوس في الذوق. يقول الدكتور عبد القادر القطّ في مقدّمته الطويلة لترجمته لمسرحية الأديب الكبير شكسبير (Shakespeare)، بل إحدى مسرحياته الشهيرة (هاملت) (Hamlet):
ولعلّ شكسبير قد استعان في فهمه لنفسيّة هاملت ببعض الدراسات النفسية، ومن بينها رسالة عن الكآبة نشرت عام 1586م لتبموثي برايت(Timothy Bright)، ويبدو أن شكسبير قد تأثر ببعض عباراته وأفكاره، لكن تصويره لكآبة هاملت يختلف اختلافا كبيرًا في جوهره عمّا رسمه برايت.35
ومن هنا نرى أنّ لعلم النفس الحديث دورا في إماطة الستار عن الإبداع المفاجئ الذي هو الإلهام. فالدراسات النفسية العلميّة هي التي اكتشفت عالم اللاّشعور الذي يضادّه عالم الشعور. وفي كتاب (عالم الأحلام) الذي نشره سيجموند فرويد (1856-1939م) في سنة 1900م ما يدعم هذا الموقف. وفرويد هذا هو الذي:
يقرّر أنّ الحلم ترجمة للرغبات المكبوتة في عالم الشعور. فكلّ رغبة من هذه الرغبات المكبوتة لا تضيع، بل ترسب في عالم اللاّشعور، ولكنّها لا ترسب إلاّ لتطفو في الحلم، لتتحقّق في شكل من الأشكال.36
فالفنّ – كالحلم– تحقيق وهمي للرغبات، وهو تعبير عن أمل مكبوت في الشعور، انتقل– بسبب الكبت، أو بسبب الرقابة المفروضة في عالم الشعور– إلى اللاّشعور، وفي الصور الأدبيّة تظهر خصائص صور الأحلام، من نقل القيم، والخلط المكاني والزماني.37
وهكذا رأينا العلم يزيل الوهم عن الإلهام شيئًا فشيئًا، إلاّ أنّ من المؤسف في العصر الحديث أن يحمل بعضَ الناس الحميّةُ الجاهليّة على الانضمام إلى صفّ أفلاطون ومن لفّ لفّه. ونجد شللي يتّبعه اتّباعا أعمى حيث قال:
ولقد كان الشعراء في العصور الأولى التي مرّت به هذه الدنيا يسمّون تارة مشرّعين وطورا أنبياء حسب العصور التي ظهروا فيها، والأمم التي نبغوا منها. صدق الأوّلون! فإنّ الشاعر جامع أبدا بين هذين في نفسه؛ لأنّه لا يقتصر على رؤية الحاضر كما هو، ولا يجتزئ باستطلاع القوانين والأنظمة الّتي ينبغي أن تنزّل على حكمها أمور، بل يستشفّ المستقبل من وراء الحاضر!… والشعراء هم قساوسة التنزيل الإلهيّ ورسل الوحي القدسيّ وشرّاح الحكمة الرّبّانية!…وهم المرايا التي تتراها في مقالها أظلال المستقبل الضخمة الكشيفة الملقاة على الحاضر!38
وليس عند الغربيّين فقط توجد بقيّة من آثار الوهم الأفلاطونيّ، بل من المدهش أنّه:
قد كانت هذه النظرة العجيبة إلى الأدباء والمتفنّنين شائعة في العالم كلّه، شيوعها في مصر والعالم العربيّ إلى عهد قريب، ممّا دعا فريقا من الناس أن يشذّ عن المجتمع في المظهر والتخلّق فيطيل شعره أو يرسل لحيته بلا ترجيل أو تشذيب، ويبالغ في إهمال هندامه أو يتّخذ من الهندام ما لا يتناسب من الألوان والأجزاء والمقاييس، ويسهر اللّيل كلّه، وينام النهار كلّه، ويرسل القول غير المعقول، ويسجّل العبارة غير السوية، تأكيدا للناس بأنّه أديب أو شاعر أو فنّان.39
فهذا موقف من لا يزال على أبصارهم غشاوة وعلى قلوبهم رين، وليس يختلف عاقلان في العصر الحديث أن لا جنّ ولا شيطان يعلّم أو يوحي إلى الشاعر، وإنّما الذي وصل إليه المحقّقون هو ما قد أثبتناه أنّه تذكّر تلقائيّ أو إبداع مفاجئ يمتلك الشاعر الملكة الطبعية والاستعداد الفطريّ لصوغه صياغة تروق السّمع والقلوب. على أنّ هذه الملكة – أو الذوق الإبداعيّ بتعبير آخر– لا بدّ أن تنمّى وتصقل بآلات أخرى تحتفل بها كتب البلغاء والنّقّاد. وهذا هو ابن سنان الخفاجي يقول معدّدا بعض هذه الآلات:
ويحتاج الشاعر خاصة إلى خمسة عشر بحرا التي ذكرها الخليل ابن أحمد، وما يجوز فيها من الزحاف، ولست أوجب عليه المعرفة بها لينظم بعلمه، فإنّ النظم مبنيّ على الذوق، ولو نظم بتقطيع الأفاعيل جاء شعره متكلّفا غير مرضيّ، وإنّما أريد له معرفة ما ذكرته من العروض، لأنّ الذوق ينبو عن بعض الزحافات، وهو جائز في العروض، وقد ورد للعرب مثله، فلولا علم العروض لم يفرّق بين ما يجوز من ذلك وما لا يجوز.40
ومهما يكن من شيء فمسألة الإلهام مسألة سهلة إذا لم تعقّد بالتخمينات والأساطير والسفسطائيّة.
و“الحيرة حول معرفة مصدر الإلهام خاصة بالإلهام الذي يصاحب عمليّة الإنتاج الأدبيّ وقت انبثاقه من عقل صاحبه. ولا أظنّ أنّ هذه الحيرة سوف تبقى عندما نفهم الإلهام على أنّه استعداد كامن في نفس الأديب الفنّان، وأنّه ملكة يولد الإنسان بها، ويفطر عليها، وتكاد تكون غريزة فيه، وهذه حقيقة نراها عند نقّادنا العرب لا اختلاف عليها. ذلك لأنّهم يرون أنّ الأثر الأدبيّ الجيّد لا يمكن أن يكون إلاّ عن نفس ملهمة.41
نعم، إنّ الأثر الأدبيّ الجيّد لا يمكن أن يكون إلاّ عن نفس ملهمة، وهذا الإلهام لا يتأتّى إلاّ عن تجربة سابقة شعورية أو غير شعورية -كما أسلفنا-، وإن أردنا أن نردّه إلى قوّة خارجيّة قلنا إنّه من الله العليم الحكيم ولا إلى غيره ممّا تخمّنه أساطير الأوّلين. وهذا هو الحقّ الذي لا حقّ سواه، يقول ابن المقفع:
“وجلّ الأدب بالمنطق وكلّ المنطق بالتعلّم ليس حرف من حروف معجمه، ولا اسم من أنواع أسمائه إلا وهو مرويّ متعلّمٌ مأخوذ عن إمام سابق من كلام أو كتاب، وذلك دليل على أنّ النّاس لم يبتدعوا أصولها، ولم يأتهم علمها إلاّ مِن قِبل العليم الحكيم”.42
ولعل من الطريف أن ننهي البحث أنّ جميع ما تقدّم من القول – عدا النّصّين الأخيرين وبعض إشارات طفيفة من القدماء- في تحقيق مصدر الإلهام وحقيقته منحصرٌ في الإبداع الشعريّ، أليس من حقّ الأديب الناثر أن يكون ملهمًا – بمعنى الإلهام الصّحيح- قبل أن يكتب؟!وأرى أنّ حكر القول في الشعر يقضي ببخس النثر حقّه أو تهوين شأنه، فالأديب الناثر- في رأيي المتواضع- ليس بأقلّ شأنًا من زميله الشاعر، وهذه المسألة خليقة بالبحث جديرة بالعناية. والله أعلى وأعلم.
خاتـمة
وقد عرضت في الصفحات السابقة مواقف الأدباء والنقاد – قديما وحديثا، عربا وعجما– من قضيّة الإلهام، وتوصّل البحث حول القضيّة إلى النتائج الآتية:
1 – أنّ القول بضرورة الإلهام في عمليّة الإنتاج الشعري قديم قدم التاريخ.
2 – أنّ الأدباء والنقاد العجم قد ذهبوا مذهب العرب – أو قريبا منه- في تقرير المسألة.
3 – أن قول العرب – فيما حكي عنهم القرآن الكريم– أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم شاعرٌ مجنون مدْحٌ له، وإن بدا ذمًّا في أوّل وهلة.
4 – أنّ الإلهام إن عُنِيَ به الإبداع المفاجئ الذي يحصل للأديب في بعض الأحايين فهو حقٌّ، وأمّا إن كان ما يُعنَي به أنّ للجنّ أثرًا في سيلان قلم الشاعر، أو أنّ للشاعر اطّلاعًا للغيب، أو اتّصالا بوادي عبقر فهو طيفٌ من الخيال، فيكون –إذًا– باطلا بدليل النقل الصريح والعقل السليم.
5 – أنّ لعلم النفس الحديث دورًا كبيرًا في إزالة الستار عن قضيّة الإلهام.
6 – أنّ هناك شرذمة من النقاد المعاصرين لا يزالون يتمسّكون بالقول القديم البالي في قضيّة الإلهام حيث يثبتونه بصورته الباطلة.
هذا، وأوصي أرباب هذه الصناعة أن يدلو بدلائهم في هذه المسألة، ويتوسَّعوا في دراستها، عسى أن يتوصّلوا إلى خير ما توصّلت إليه، أو يصلوا إلى غير ما وصلت إليه، فليس العلم حِكرًا على أحد، ولا يظهر الحقّ في القضايا العلمية العويصة إلاّ بالبحث والتنقيب.
الهوامش
1 – عبد الحميد يونس، الأسس الفنيّة للنقد الأدبي، ص74.
2 – أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج5، ص216، مادة (لهم).
3 – سورة الشمس، الآيتان، 8 و9
4 – إبراهيم أنيس ورفاقه، المعجم الوسيط، مادة (لهم)، ص824.
5 – محمّد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، ص371.
6 – طـه مصطفى أبو كريشة، أصول النقد الأدبيّ، ص146.
7 – النقد الأدبيّ الحديث، ص21.
8 – الأسس الفنية للنقد الأدبي، ص74-75.
9 – المرجع السابق، ص76.
10 – عمرو بن بحر الجاحظ، كتاب الحيوان، 6/225.
11 – ينظر: المصدر السابق، 6/225-229.
12 – النقد الأدبيّ الحديث، ص366.
13 – ينظر: العصر الإسلامي، د. شوقي ضيف، ص79-81.
14 – أصول النقد الأدبيّ، ص147.
15 – الأسس الفنية للنقد الأدبيّ، 76.
16 – سورة الدخان، الآيتان 13 و14.
17 – سورة الصافات، الآية 36.
18 – سورة التكوير، الآية 22.
19 – سورة القلم، الآية 2.
20 – سورة يس، الآية 69.
21 – ابن منظور الإفريقي، لسان العرب، م9، مادة عبقر، ص23.
22 – الأسس الفنية للنقد الأدبي، ص77.
23 – النقد الأدبيّ الحديث، 367.
24 – سيّد قطب، النقد الأدبي أصوله ومناهجه، ص69.
25 – شوقي ضيف، الشعر الجاهليّ، ص142.
26 – الشعر الجاهليّ، ص143.
27 – سورة البقرة، الآية 14.
28 – إحسان عباس، ينظر: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص23.
29 – النقد الأدبي الحديث، ص369.
20 – محمّد مصطفى هدّارة، مشكلة السرقات في النّقد العربيّ، ص275.
31 – النقد الأدبيّ الجديث، ص370-371.
32 – عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص70-71.
33 – مشكلة السرقات في النقد العربي، ص273-274.
34 – من رسائل العقاد، محمد محمود حمدان، ص300 -301
35 – هاملت، وليام شكسبير، ترجمة الدكتور عبد القادر القطّ، ص10.
36 – المرجع السابق، ص371.
37 – إبراهيم عبد القادر المازني، الشعر غاياته ووسائطه، ص35.
38 – الأسس الفنيّة للنقد الأدبيّ، ص78-79.
39 – ابن سنان الخفاجي، سرّ الفصاحة، ص289.
40 – أصول النقد الأدبيّ، ص150.
41 – عبد الله بن المقفّع، الأدب الصغير، (مطبوع في مجلّد كبير يحمل اسم “آثار ابن المقفّع)، ص283.
المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
إبراهيم أنيس ورفاقه، (د.ت): المعجم الوسيط، مادة (ألهم).
إبراهيم عبد القادر المازني، (1990م): الشعر غاياته ووسائطه، تحقيق د. فايز ترحيني، دار الفكر اللبناني، الطبعة الثانية.
ابن منظور الإفريقي، (1416-1995م): لسان العرب، موسّسة التاريخ العربي (بيروت)، الطبعة الأولى.
أبو عثمان الجاحظ، (1388هـ/1060م): كتاب الحيوان، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار إحياء التراث العربي، (بيروت)، الطبعة الثالثة.
أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجيّ، (د.ت): سرّ الفصاحة، دار الكتب العلمية (بيروت)، الطبعة الأولى.
إحسان عباس، (1988م)، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الشروق (عمّان–الأردن.)
أحمد بن فارس اللّغوي، (د.ت): معجم مقاييس اللّغة، (د.ن.)
الإمام عبد القاهر الجرجاني، (د.ت): دلائل الإعجاز، طبعة محمّد رشيد رضا، دار الكتب العلمية (بيروت).
عبد الحميد يونس، (1996م): الأسس الفنية للنقد الأدبيّ، دار المعرفة (القاهرة)، الطبعة الثانية.
سيّد قطب، (د.ت): النقد الأدبي: أصوله ومناهجه، دار الفكر العربيّ.
شوقي ضيف، (د.ت): الشعر الجاهليّ، دار المعارف، الطبعة الثالثة.
شوقي ضيف، (د.ت): العصر الإسلامي، دار المعارف، بمصر، الطبعة السادسة.
عبد الله ابن المقفّع، (1409هـ/1989م): أثار ابن المقفّع، دار الكتب العلميّة (بيروت)، الطبعة الأولى.
طـه مصطفى أبو كريشة، (1996م): أصول النقد الأدبيّ، مكتبة لبنان ناشرون الطبعة الأولى.
محمّد غنيمي هلال، (د.ت): النقد الأدبي الحديث، دار نهضة مصر.
محمّد محمود حمدان، (1418هـ/1997م): من رسائل العقّاد، الدار المصريّة اللّبنانية، (القاهرة)، الطبعة الأولى.
محمّد مصطفى هدّارة، (1981م): مشكلة السرقات في النقد العربيّ، المكتب الإسلاميّ.
وليام شكسبير، (1402هـ/1982م): هاملت، ترجمة الدكتور عبد القادر القطّ، دار الأندلس، (بيروت)، الطبعة الأولى.
No comments:
Post a Comment