Sunday, 19 April 2015

عامل التشويق في العلوم الإنسانيّة المعاصرة

عامل التشويق في العلوم الإنسانيّة المعاصرة

                                            بقلم

عبدالحفيظ أحمد أديدميج
جامعة فونتيينFountain  (الينبوع)، أوشوبو، ولاية أوشن، نيجيريا
البريد الإلكتروني:abdulhafeezmeji@hotmail.com&abdulhafeezmeji@yahoo.com
Phone Numbers: 08059310129 & 08121521380

مقدّمة
         الحمد لله عالم غيب السموات والأرض وما بينهما، لا يخفى عنه خافية فيما يجري فيهما، والصلاة والسلام الدائمان على النبيّ المختار خير الثقلين وسيّدهما، وعلى آله  وصحبه وأتباعه العالمين بالخير والشّرّ العاملين بأولاهما، وبعد:

إنّ من أفضل السبل لخدمة اللغة العربيّة وعلومها في العصر الحاضر تحديثها حتّى تواكب روحَ العصر وتساير العلوم العصريّة؛ لأنّها بذلك تخرج عن الجمود التذي توصف به وتتبرّأ عن التّحجّر الذي تُرْمى به. ومن هذا المنطلق الفاضل شمّرت عن ساعد الجدّ وتأمّلت في مصطلح التشويق الذي يُعتبَر عنصرا بلاغيّا من حيث الأصل،ورأيت أنّ له علاقةً حميمةً مع بعض العلوم الإنسانية واللسانية المعاصرة، حتى أصبح كأنّه هو القاسم المشترك بينها. ومن هنا يرى الباحث أن يتعرّض لهذه العلوم التي تقاسم هذا العنصر اللغويّ في إثارة الشوق وتعميق المعنى في النفوس. وبعبارة أخرى قصد بهذا العمل العلميّ أن يكون دليلا على التعاون الوثيق بين اللغة وبعض العلوم الحديثة قدر المستطاع. وكذلك استشهد على هذه الصلة الوثيقة بكلام خير الخلق وأفضل المتكلّمين سيّدنا محمد (ص) ما وسعه،  كما برهن على هذه العلاقة الحميمة بأقوال المتخصّصين ما وجد إلى ذلك سبيلا. وتشتمل المقالة على النقاط الآتية:
توطئة: وفيها بيّنت أهيّة الموضوع والدافع إلى الكتابة فيه
فنّ التشويق والأدب
فنّ التشويق وعلم الأسلوب
فنّ التشويق وعلم الخطابة
فنّ التشويق وعلم التربية
فنّ التشويق وعلم الاجتماع
فنّ التشويق وعلم النفس
خاتمة: وفيها تلخيص البحث وبيان ثمرته
       وعلى الله قصد السبيل، وهو المستعان وله الحمد في الأولى والآخرة.














توطئة
         إنّ العربيّة التي وسعت كتابَ الله لفظا وغايةً أَقْدَرُ اللغات على مواكبة العصر وأجدرُها على مسايرة النهضة العلميّة الحديثة، فهي لا تنطلق من تصوّرات عقليّة محضة، وإنّما ترتبط بـأحوال الناس وواقعهم، وترسم لهم أفضل الطرق التي يعبّرون بها عن أغراضهم ومقاصدهم. وتحقيقا لهدف تعانق العلوم الإنسانية من جانب وتآلفها مع فنّ التشويق التي هي ظاهرة لغويّة من جانب آخر كُتب هذا البحث المتواضع.وسيعرض الباحث على كيفيّة تجاذبِ العلومِ الإنسانية واللسانية العديدة لعنصرِ التشويق، ويتبيّن لنا من خلال هذه الإطلالة السريعة أنّ هذه العلوم شقائق متعاونون في إرساء المعاني في نفوس السامعين، كما سيظهر أنّ النصوص النبويّة غنيّة بعناصر مباحث البلاغة الاصطلاحيّة، تلك المزيّة التي تؤهّلها أن تكون شواهد لغويّة كما تصلح للبرهنة الدينيّة.

 فنّ التشويق والأدب

        الأدب واحد من نشاطات الإنسان، وهو نشاط طبيعي، يتميز في الإنسان تميّز الجنس الإنساني عن سائر الكائنات. وقد عرّفوه بأنّه ‘‘فنّ الإبانة عمّا في النفس، والتعبير الجميل عن مكنونات الحسّ، والتصوير الناطق للطبيعة، والتسجيل الصادق لصور الحياة ومظاهر الكون ومشاهد الوجود’’.1
         وإذا كان السابق هو حقيقة الأدب، فيبقى أن نتساءل في وظيفته. ذلك لأنّ الإنسان لا يمكن أن يلجأ إلى شيء دون أن يكون له هدف وراء ذلك. فالأدب –في الغالب- يقصد منه التأثير في عواطف القرّاء والسامعين، سواء أكان شعراً أم نثراً.2فالكلمة المؤثّرة الهادفة هي التي تحمل المتعة والفكرة، وتؤثّر في النفس والقلب والعقل، وتخاطب الصغير والكبير، وتؤثّر في أجيال إثر أجيال.3
         وإذا كانت الوظيفة الأساسية للأدب هي نقل ما في نفس الأديب إلى غيره ليشعر بما شعر ويحسّ بما أحسّ كان الأديب أحوج الناس إلى التعرّف على السبل المؤدّية إلى إثارة عواطف المتلقين وإلهابها، فلا غنى له- إذاً- من معرفة أساليب التشويق، إذ بها يتملك عليهم مسامعهم، ويصبرون على استماع أفكاره وأحاسيسه. وهنا يلتقي الأدب بفنّ التشويق، فالأديب الناجح لا بدّ له أن يثير ويشوّق، حتّى يأسر ويؤثّر. بل لا نغالي إذا قلنا إنّ دراسة أساليب التشويق دراسة لطرق أداء الأدب الموفّق، ذلك الأدب الذي يسجّل صور الحياة ومظاهر الكون تسجيلا يثير في نفوس الناس لذّة فنية ومتعة شعورية.
 فنّ التشويق وعلم الأسلوب
        الأسلوب هو ‘‘الضرب من النظم والطريقة فيه’’.4 وعرّفه بعض المعاصرين بأنه هو ’’طريقة الكتابة، أو طريقة الإنشاء، أو طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الإيضاح والتأثير‘‘.5
        والحاصل أنّ لكل كاتب أسلوبا يميّزه، ولكل شاعر مذهبه الشعري يعرف به. وهذا الأسلوب يختلف من منشئ لآخر قوة وضعفا، ويتفاوت من أديب لآخر جاذبية وضآلة. فإذا أحكم الكاتب أسلوبه اكتسب به المعجبين والمكبرين، وإذا هزلت طريقة تحرير الكلمة نفر عن قصده صاحبها وجلب على نفسه سهام الناقدين. والأسلوب الجيّد مؤثّر ومشوّق، بينما الأسلوب الركيك منفّر وكريه. وكلّ منهما يلفت الانتباه ولو بطريقة مختلفة.
وهكذا ندرك أنّ بين الأسلوب والتشويق عموما وجهيّاً6. فالأسلوب أعمّ من جهة الأثر في المتلقي، لكونه قد يشوّق وقد لا يشوّق، وأخصّ من التشويق من جهة طريقة الأداء، لكونه لا يستعمل إلاّ في المكتوب فقط.
فنّ التشويق وعلم الخطابة
        يعتقد الأقدمون أنّ الخطابة علم له أصول وقوانين ينجح في خطبه من أخذ بها ورعاها. ومن هؤلاء  أرسطو7 الذي صنّف في ذلك كتابا كاملا أسماه (الخطابة). وهي –عند هذا الفريق- ‘‘مجموع قوانين، تعرِّف الدارس طرق التأثير بالكلام، وحسن الإقناع بالخطاب؛ فهو يعنى بدراسة طرق التأثير، ووسائل الإقناع، وما يجب أن يكون عليه الخطيب من صفات، وما ينبغي أن يتّجه إليه من المعاني في الموضوعات المختلفة’’.8
        وممّا ذُكِر من أركانها أنّه لا بدّ من جمهور يستمع  إلى الخطيب. ولا بدّ من إقناع، وذلك بأن يوَضِّح الخطيب رأيه للسامعين، ويؤيِّده بالبراهين، ليعتقدوه كما اعتقده. ثمّ لا بدّ من الاستمالة، والتي يعنى بها تهييج الخطيب سامعيه، وقبضه على زمام عواطفهم بها كيف يشاء لا حول لهم في ذلك ولا قوّة.9
        ومن خلال تعريف الخطابة والتعرّض لأركانها يتبين لنا مدى الترابط الذي يكون بينها وبين التشويق. ذلك الترابط الذي يكاد يرتقي إلى درجة الاتّحاد، فالتشويق سلاح نافذ بيد الخطيب المصقع، يستعين به على أَسْرِ العواطف، ويستند عليه في تغلغله إلى سويدوات القلوب. والخلاف الوحيد التي بين أساليب التشويق والخطابة المتميّزة هي أنّ الأولى أعمّ من الثانية مطلقا. فالتشويق يكون في الكلام إلقاءً وكتابةً، كما نجد ذلك في الأحاديث النبوية الشريفة الموجودة بين أيدينا اليوم. فهي تؤثّر فينا، وتروقنا، وتشدّ انتباهنا إليها حينما نقرأها، شأنها فينا شأنها في الصحابة الكرام رضي الله عنهم الذين سمعوه مباشرة من في خير الخلق وإمام البلغاء (ص). أما الخطابة- كما يدلّ عليه مادّتها اللغوية- فهي فنّ قوليّ يقتصر أثره على جودة سبكه وطريقة إلقائه ليس غير.

 فنّ التشويق وعلم التربية
        تدلّ مادّة (التربية) على تنشئة الشيء وإصلاحه وتبليغه كماله شيئا فشيئا. أمّا التربية بمعناها الاصطلاحيّ الإسلامي فهو ‘‘التنظيم النفسي والاجتماعي الذي يؤدي إلى اعتناق الإسلام وتطبيقه كليّاً في حياة الفرد والجماعة’’.10
        فكلّ قول أو عمل أو حركة تهيّئ النفس الإنسانية لتقبّل الحق وتحمّل الأمانة الإلهية داخلة في صميم ما يسمّى بالتربية الإسلامية. وإذا تقررت هذه الحقيقة علمنا أنّ المربّي المثاليّ هو الذي يسلك جميع السبل، ويوظّف شتّى الأساليب، ويتّخذ كافة المناهج التي تغرس الآداب الإلهية والمعاني السامية في نفوس من يتولى تربيتهم. وتأتي أساليب التشويق بمدلولها البلاغي ومعناها العام من أهمّ ما لا بدّ للمربّي أن يتزوّد بها.
    إنّ الانتباه مهمّ جدّا في عمليّة التعلّم، فالإنسان لا يستطيع أن يتعلّم شيئا لا ينتبه إليه. إن الانتباه ، إذاً، شرط ضروري في عملية التعلّم. ولذلك يعنى المعلمون دائما بإثارة انتباه المتعلمين حتى يمكنهم استيعاب ما يراد تعلّمه. ويمكن إثارة انتباه المتعلمين بعدّة وسائل، منها الاستعانة بالأحداث الجارية والمواقف العلمية،وتوجيه الأسئلة والحوار والمناقشة، والاستعانة ببعض الوسائل المعينة للانتباه، كالخرائط والرسوم البيانية وما يسمّى حديثا بالوسائل السمعية والبصرية، والاستعانة بالقصص والأمثال. وقد سبق رسول الله (ص) علماء التربية المحدثين في استخدام  هذه الوسائل في إثارة انتباه أصحابه ليوصّل إليهم ما يريد توصيله من مواعظ وحكم ومعارف وعبر.11
        وما نعرفه بأسلوب الاستفهام في البلاغة هو ما يعنيه علماء التربية بالحوار الخطابي التنبيهي أو الإيضاحي. وهو –عندهم- أن يرد سؤال من المربّي أيّا ما كان، يليه جواب، فتكون غايته لفت الأنظار إلى أمر هام، ثمّ شرح ذلك الأمر.12ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو هريرة (ر) أنّ رسول الله (ص) قال: ‘‘أتدرون ما الغيبة’’؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:‘‘ذكرك أخاك بما يكره’’.قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ‘‘إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه’’.13
    وهذا أسلوب رائع مؤثر، يضاهي أسلوب الاستجواب في المدرسة الحديثة، ويزيد عليه؛ فالأسلوب الاستجوابي مقصور على أمور علمية أو عادية جافة،  بينما نرى الخلابة والصراحة تجعلان هذا الحديث يتحدّى عقول السامعين ويزوّد أفكارهم بأمور جديدة لا علم لهم بها من قبل. يشرح لهم هذه الأمور ويوجّههم إلى الأخذ بخيرها وترك شرّها، فغايته وجدانية سلوكية، يثير بها عواطفهم وانفعالاتهم في سبيل تحقيق سلوك طيّب، والابتعاد عن سلوك شرير.
       وبجانب هذا نرى أنّ الحذف والتكرار-عندما يتقن المتكلم  توظيفهما- يؤدّيان وظيفة تربويّة هامة. وذلك حينما يجعل المتلقي متعطّشا لمعرفة المحذوف كي يدرك فحوى الكلام ويجني ثماره، ويتأكد -بواسطة التكرار- الكلامُ عنده. وخير مثال لذلك ما ورد في صحيح مسلم أنّ الرسول (ص) مرّ عليه بجنازة فاأُثني عليها خيرا، فقال نبيّ الله (ص):‘‘وجبت، وجبت، وجبت’’. ومرّ بجنازة فأثني عليها شرّا، فقال نبيّ الله ِ (ص) :‘‘وجبت، وجبت، وجبت’’. قالعمر: فدًى لك أبي وأمّي! مُرّ بجنازة فأثني عليها خيرا فقلت: وجبت وجبت وجبت، ومر بجنازة فأثني عليها شرّا فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول اللهِ (ص): ‘‘من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنّة، ومن أثنيتم عليه شرّاوجبت له النار، أنتم شهداء الله على الأرض، أنتم شهداء الله على الأرض، أنتم شهداء الله على الأرض’’.14
        رأينا في هذا الحديث كيف هيّأ النبي (ص) قلوب السامعين لما سيلقيه عليهم من الإرشاد والتوجيه بأن حذف الفاعل من (وجبت) مرتين، وذلك لتحنّ إليه النفوس،وتسعى إلى معرفته، وتتحرّك العقول ساعية في سبيل تقدير الاسم الملائم لهذا المحلّ الإعرابي الشاغر. فقد وجدنا المتلقّين لما عجزوا عن التقدير المناسب سأله (ص) أحدهم –فيما معناه-: ماذا وجبت في الأولى وفي الثانية يا رسول الله؟ ولا شك أنّ هذا الحذف له حظّ كبير في تشويقهم لقبول التربية النبوية. ثمّ إنّ ورود (وجبت) ثلاث مرات في كلٍّ من الموقفين وتكرار قوله‘‘أنتم شهداء الله على الأرض’’ ثلاث مرات في نهاية الحديث تركيز لأهميّة هذا الهدي، وترسيخ لهذا التذكير، حتى لا يكون عرضة للنسيان ويكونَ محلَّ الاعتبار.
         وهكذا نجد كلاًّ من الحذف والتكرار-وهما فنّان بلاغيان مثيران للشوق- يسهمان في التربية ويعينان في إنجاح وظيفتها. فلا يخفى علينا بعد هذا أنّ العلاقة بين فنّ التشويق والتربية علاقة تكامل وتعاون.
 فنّ التشويق وعلم الاجتماع
        يجب على المتكلم - أيّ متكلم- إذا أراد أن يبلغ غايته؛ ويحسن سياسته في أموره أن يتوخّى طباع الناس، وتلوّن أخلاقهم، وتباين أحواله. ‘‘واللغة في جوهرها حاجة من حاجات المجتمع كانت مقترنة –أوّل كلّ شيء- بصلة الإنسان بهذا المجتمع، وبما تدفعه الحاجة إليه من الفهم عن هذا المجتمع وإفهامه والتلقي عنه والإلقاء إليه، وإن كان هذا الفهم والإفهام يختلفان باختلاف المجال الذي يدوران فيه من حيث الرغبات الدنيا والرغبات العليا. وتتجلّى الأولى في المأكل والمشرب والبيع والشراء وما إلى ذلك. وتتجلّى الأخرى في النجوات الروحية والأحاديث القلبية وفي التأثير على المشاعر والاستحواذ على مجامع القلوب’’.15
        ومادام المتكلم -فيما يلقيه يحسّ بالمجتمع حوله وبصلته به- يتحدث بوصفه عضوا من أعضاء هذا المجتمع، فلا بدّ أن يتوخّى ملائمة كلامه لطباعهم المتباينة. وهذا يستدعي إلماما بسياسة الناس، وما يجب لكل طبقة من المعاملة، وما يلزم لكلّ صنف من الخطاب، يجب أن يكون عليما بروح الجماعة، دارسا لأخلاقها فاهما لما يسيطر عليها. وإذا كان هذا لزاما للمتكلم الخبير فمن الواجب –إذاً- أن تكون أفانين التشويق متّصلة بقوانين علم الاجتماع.
        وما كان نجاح النبي (ص) في دعوته وسرعة إقبال ألدّ الأعداء إلى قبول دعوته –بعد السماع منه (ص)- إلاّ لخبرته بمحيطه الاجتماعيّ والأساليب التي تروق القوم الذين أرسل إليهم.يقول الرافعي:ّ16 ‘‘إنّ أكبر الشأن في اكتساب المنطق واللغة للطبيعةُ والمخالطة والمحاكاة، ثمّ ما يكون من سمو الفطرة وقوّتها فإنما هذا سبيله: يأتي من ورائها وهي الأسباب إليه، وقد نشأ النبي (ص) وتقلّب في أفصح القبائل وأخلصها منطقا، وأعذبها بيانا، فكان مولده في بني هاشم، وأخواله في زهرة، ورضاعه في بني سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، وتزوجه في بني أسد، ومهاجرته إلى بني عمرو، وهم الأوس والخزرج من الأنصار’’.17
        ولا غرو لمن هذا شأنه أن يواجه كلّ قوم بالأسلوب الذي يفهمونه، وأن يحدّث كلّ رجل بالقول الذي يتفق ومزاجه.‘‘وكانت لغة رسول الله (ص) التي يتكلم بها على الدوام، ويخاطب بها الخاص والعام، لغة قريش وحاضرة الحجاز، إلاّ أنّه (ص) أوتي جوامع الكلم، وجمع إلى سهولة الحاضرة جزالة البادية، فكان يخاطب أهل نجد وتهامة وقبائل اليمن بلغتهم، ويخاطبهم في الكلام الجزل على قدر طبقتهم’’.18
        إنّ المتدبّر لأحاديثه (ص) يجد أنّ كل كلامه يصلح مثالا لمعرفته الدقيقة للقوم المرسل إليهم؛ وبالتالي إصابته (ص) الأسلوبَ المناسب لمخاطبتهم. فلنكتف بسوق حديث واحد ندلّل به أنّ رسول الله (ص) أعرف بأنّ لكل أمر حقيقة، ولكل زمان طريقة، ولكلّ إنسان خليقة؛ فلا بد من الالتماس للأمور حقائقها، والجري مع الزمان على طرائقه، ومعاملة الناس على خلائقهم.
        عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: أنّ ضِمادا قدم مكّة،وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع من سفهاء من أهل مكّة يقولون: إنّ محمدا مجنون، فقال لو أنّي رأيت هذا الرجل لعلّ الله يشفيه على يديّ. قال: فلقيه، فقال: يا محمد! إنّي أرقي من هذه الريح: وإنّ الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله (ص) :‘‘إنّ الحمد لله،نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلهإلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّدا رسول الله، أمّا بعد’’.فقال: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهنّ عليه رسول الله (ص) ثلاث مرّات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر، قال: فقال: هات أبايعك على الإسلام، قال:فبايعه، فقال رسول اللهr:‘‘وعلى قومك’’ قال: ‘‘وعلى قومي’’.19
        وأيّ كلام أبلغ من هذا؟! وأيّ برهنة أفصح من هذه؟! وأيّ اختصار أوجز من هذا؟! إنّه هو الرسول الحليم الكريم الحكيم (ص). رسول افتُرِي عليه بالجنون ولم يغضب، نبيٌّ أُسِيء عليه الأدب ولم ينتقم لنفسه، حكيم أبان الحجّة بالأسلوب الحكيم!20 لو لم يعرف القوم الذين أُرسل إليهم ما تحقّق له قوّة الحجّة والنصر المبين الذي تحقّق له في هذا الموقف، وفي كل حياته الحافلة بكل نجاح.
        نعم! العرب كانوا قوما لُدًّا كما ذكر ذلك القرآنُ الكريم، وذلك يقول عزّ مِن قائل: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِنِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}. (سورة مريم، الآية 97).  ولو كان ردّ فعله (ص) عنيفا –كما هو المتوقّع عادة في مثل هذا الموقف- لزاد الرجل الذي أقبل إليه لدادا وعنادا، ولصدّق قول المتقوّلين فيه. لكنّه (ص) بادله بالتي هي أحسن، وسلك معه سبيل أسلوب الحكيم، حيث لم يجبه على سؤاله وتجاهل غرضه، وعدل عن الجواب المتوقع إلى الجواب اللائق، تنبيها له أنّ الأولى أن يسأله عمّا بُعِث به.وهكذا رأينا انقلاب العدوّ اللدود محبّا ودودا، بل سارع على مبايعته (ص) وأدخل من معه من القوم في متابعته. ودرايته (ص) بأحوال مبلَّغيه هي التي لقّنته براعة القول في هذا الموقف الحرج، وكفى بهذا إبانة لما بين علم الاجتماع وفنّ التشويق من علاقة.
فنّ التشويق وعلم النفس
        لا يصل المتكلم إلى غايته التي هي شدّ انتباه السامعين إلى كلامه وإقناعهم وحملهم على المراد منهم إلاّ إذا استطاع أن يثير حماستهم، ويخاطب إحساسهم، ويوصل كلامه إلى شغاف قلوبهم. ولا يمكنه ذلك إلاّ إذا كان عليما بما يثير شوقهم، ويسترعي انتباههم، وعليما بطبائع النفوس وأحوالها وغرائزها وسجاياها، وذلك لا يكون إلاّ بعلم النفس. يقول أحد القدماء في تكريس هذه الحقيقة: ‘‘والنفس تسكن إلى كلّ ما وافق هواها، وتقلق ممّا يخالفه، ولها أحوال تتصرّف بها، فإذا ورد عليها في حالة من حالاتها ما يوافقها اهتزّت له وحدثت له أريحية وطرب، فإذا ورد عليها ما يخالفها قلقت واستوحشت’’.21
        فالتشويق لا يتحقق إلاّ بواسطة الإبلاغ، والإبلاغ لا يكون إلاّ من أداة الكلمة البليغة المؤثّرة في النفوس، يقول جلّ وتعالى:{أُولَئِكَ الذِّينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ وَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا}. (سورة النساء، الآية 63). ومردّ ذلك إلى أنّ اللغة في بناء الإنسان الفكري وتكوينه الروحي؛ نظرا للصلة القويّة بين الإنسان واللغة من حيث إنّ اللغة بُعدٌ مهمّ من أبعاد الإنسان نفسه. ومن هنا نوقن أنّ بمقدار ما يتحقق في الكلام من كمال لغويّ، أو بلاغة فنيّة بلغة عصره ومصره، يتحقق لكلامه التأثير، وينجح في الإبلاغ.22      
          ولما بين علم اللغة بجميع فروعها وعلم النفس من علاقة تكامل وتلازم ‘‘زاد اهتمام الباحثين في علم النفس بمعظم نواحي اللغة تقريبا، وخاصة ما يتصل بالسلوك اللغويّ، والفروق الفردية في اكتساب اللغة وسيكولوجية المهارات اللغوية، وعلاقة اللغة بالشخصية، وعيوب الكلام’’.23
        والناظر في الحديث النبوي يجد نماذج كثيرة من مراعاته (ص) لأحوال المخاطبين النفسية في بيانه الواجبات الدينية والتكاليف الشرعية، فبينما نراه يفصّل ويذكر السنن والمندوبات لكبار الصحابة والسابقين الأوّلين إلى الإسلام، نجده يجمل ويكتفي بأوجب الواجبات لحدثاء العهد بالإسلام كيلا يستثقلوا الدين. وممّا يصلح شاهدا على هذا ما رواه أبو أيّوب (ر)، قال:جاء رجل إلى النبيّ (ص)، فقال: دُلّني على عمل أعمله يدنيني من الجنّة، ويباعدني من النار. قال: ‘‘تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك’’. فلما أدبر، قال رسول الله (ص): ‘‘إن تمسّك بما أمر به دخل الجنة’’.24
           معلوم أنّ هذا الحديث الشريف ليس في بداية الإسلام، لأنّ راويه هو أبو أيّوب الأنصاريّ، الذي نزل رسول الله (ص) في بيته أوّل ما وصل إلى المدينة بعد الهجرة.يستنبط من هذا أنّ بيان الأحكام والمعاملات وفضائل الأعمال قد أُنزل في هذا الوقت. ومع ذلك نراه (ص) مقتصرا في إجابته الرجلَ على أربعة أشياء انتقاها (ص) لتمثّل دعائم الإسلام الهامة؛ وهي توحيد الألوهية الذي هو أهمّ أنواع التوحيد الثلاثة،25 والصلاة التي هي عماد الدين، والزكاة التي هي عبادة الأموال وعنوان التكافل الاجتماعي في الإسلام، وصلة الرحم التي بها تقوى العلاقة الأسريّة والتي تمثّل أُنموذجا لما دعا إليه الإسلام في المعاملات.
        اكتفى (ص) بأشياء أربعة فقط من بين شرائع الإسلام ممثّلا بها للتوحيد والعبادات والمعاملات، لأنّه (ص) يدرك تماما أنّ نفسيّة هذا الرجل لا تتحمّل الإفاضة في الإفادة، فهو(ص) بهذا برهن أنّه على وعيٍ راسخ بالمجالات التي يبحث فيها علماء النفس في عصرنا هذا. فمجالات فنّ التشويق يجب أن تكون ملائمة كل الملائمة لقوانين علم النفس، لكونهما ينصبّان في قالب واحد؛ فالأوّل يُبحَث فيه عن الكيفيّة والطرق التي تجذب النفوس وترسّخ فيها الكلام، والثاني يُسعى فيه إلى معرفة حقيقة النفس البشرية وكيفية التعامل معها.

خاتمة
       قد رأينا فيما سبق أنّ العلوم الإنسانيّة شقيقات أو أبناء علّات يعتمد بعضها على بعض. وكذلك تبيّن لنا فيما حلّلنا وعلّلنا به أنّ الحديث النبويّ الشريف غنيّ في البلاغة ثريّ في الأدب صالح أن يكون ميدانا للدراسة اللغويّة، علاوة على المكانة المرموقة  التي قد ثبتت له في الدين والتهذيب النفسيّ والخلقيّ والإصلاح الاجتماعيّ. وبهذا التحليل الواسع السابغ حاولت أن أجيب عن صدى أحد الباحثين المعاصرين حيث يقول: ‘‘ولست أدري إلى متى يظل كلامنا في هذا الباب كلاما عاما لا يقف بنا على حقائق محددة في تحليل ووصف وتحديد الملامح الأسلوبية الخاصة في أدب كل أديب، وشعر كل شاعر، وفكر كل مفكر، وفقه كل فقيه، إلى آخر حقول المعرفة العظيمة والزاخرة’’.26
       وقد أثبث هذا البحث أنّ التشويق وإن غلب عليه الطابع اللغويّ فنّ له علاقة وثيقة بعلوم كثيرة.ولا نبعد عن الصواب إذا قلنا إنّه هو المحور الأساسي الذي تدور عليه وتستمدّ منه قوّتها العلوم السالفة الذكر. وهذا يرينا أيضا أنّ العلوم – لاسيما العلوم الإسلامية- تنبع من منبع واحد، بحيث إنّ الحاذق المتقن حقًّا لأحد منها يكون له إلمام -مهما كان مستوى ذلك الإلمام- بغيره من العلوم. ومن الخطأ أن ينغلق العالم ويتقوقع في حدود تخصّصه، ولا يوسّع أفق معرفته. ذلك أنّه سيجد نفسه في حاجة ماسة إلى أشقّاء العلم المتخصّص فيه، والذين لا يتجزّأ عنهم ميدان التخصّص.
الهوامش والمراجع
1 -     محمد عبد المنعم خفاجي (1986م)، الشعر الجاهلي، دار الكتب اللبناني ومكتبة المدرسة (بيروت)، ص13.
2 -     شوقي ضيف (بدون تاريخ)، العصر الجاهلي، دار المعارف بمصر، الطبعة السادسة، ص 7.
3 -     محمد حسن بريغش (1402ه-1982م)، في الأدب الإسلامي المعاصر، مكتبة الحرمين (الرياض)، الطبعة الأولى، ص 20.
4 -     عبد القاهر الجرجاني (بدون تاريخ)، دلائل الإعجاز، تحقيق محمَّد رشيد رضا، دار الكتب العلميّة (بيروت)، ص 361.
 5-   أحمد الشايب (بدون تاريخ)،الأسلوب، مكتبة النهضة المصرية (القاهرة)، ص 44.
6-    العموم الوجهي (في علم المنطق): هو أن يكون شيئان كلاهما أعمّ من الآخر باعتبار، كالحيوان والأبيض. فالحيوان أعمّ من الأبيض لأنّه يصدق على الحيوان الأسود، والأبيض أعمّ من الحيوان لأنّه يصدق على الثلج. ينظر: معيار العلم في المنطق، 63، أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية (بيروت).
7-    هو أرسطو طاليس، كبير حكماء اليونان وفلاسفتهم، يلقّب بالمعلّم الأوّل، عاش قبل ميلاد المسيح عليه السلام. من مصنّفاته: الخطابة، علم الأخلاق.
 8-   محمد أبو زهرة (بدون تاريخ)، الخطابة أصولها تاريخها في أزهر عصورها عند العرب، دار الفكر العربيّ (القاهرة)، ص 7.
9-  أحمد محمّد الحوفي (بدون تاريخ)، فنّ الخطابة، دار النهضة المصريّة (الفجالة- مصر)، الطبعةالرابعة، ص 5.
10- عبد الرحمان النحلاوي (1417ه-1996م)، أصول التربية الإسلامية وأساليبها، دار الفكر (دمشق)، الطبعة الثالثة، ص 21.
11- محمد عثمان نجاتي (بدون تاريخ)، الحديث النبويّ وعلم النفس، دار الشروق (بيروت)، ص 189-190.
12- ينظر: أصول التربية الإسلامية، الرجع السابق، ص 213.
13- مسلم بن الحجّاج القشيريّ (1419ه-1998م)، صحيح مسلم مع شرح النوويّ، تحقيق الشيخ خليل مأمون شيحا،كتاب البر والصلة والآداب، الحديث 6536، دار المعرفة (بيروت)، الطبعة الخامسة، ص 16/356. 
14- المرجع السابق ، 7 /22، كتاب الجنائز، الحديث 2198.
15- درويش الجندي (بدون تاريخ)، علم المعاني، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الطبعة الأولى، ص 1.
16- مصطفى صادق بن عبد الرزاق الرافعي، أديب ناقد يتميّز بأسلوبه الخلاّب، من أعلام الأدب والنقد في العصر الحديث، ولد سنة 1297هـ وتوفي سنة 1356هـ. من مؤلّفاته: المساكين، تاريخ آداب العرب. ينظر: عمر رضا كحالة (1414ه-1993م)، معجم المؤلفين، 3/867، مؤسّسة الرسالة (يروت)، و أنيس المقدسي (1984م )، الفنون الأدبيّة وأعلامها في النهضة العربية الحديثة، 303-323، دار العلم للملايين (بيروت)، الطبعة الرابعة.
17- مصطفى صادق الرافعي (بدون تاريخ)، تاريخ آداب العرب، دار الكتاب العربي (بيروت)، ص2/258،  و مصطفى صادق الرافعي (بدون تاريخ)، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، دار الكتاب العربي (بيروت)، ص285.
18- أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي (بدون تاريخ)، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، مطابع كوستا توماس وشركائه، ص 2/243.
19-صحيح مسلم بشرح الإمام النووي، مرجع سابق، 6/395-396.
20-  الأسلوب الحكيم –في البلاغة- ‘‘هو تلقي المخاطب بغير ما يترقّب، بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنّه الأولى بالقصد، أو السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله أو المهمّ له’’. ينظر: الخطيب القزويني، بغية الإيضاح، ص 1/160.
21- أبوالحسن محمد بن أحمد ابن طباطبا (بدون تاريخ)،عيار الشعرص 28.
22-ينظر: محمد بن حسن الزير (1413هـ )،  بحث بعنوان (أهمّ الملامح الفنية في الحديث النبوي)، في مجلّة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد 8، ص 297.
23- عبد المجيد سيّد أحمد منصور (1402هـ-1982م)، علم اللغة النفسي، نشر عمادة شؤون المكتبات بجامعة الملك سعود (الرياض)، الطبعة الأولى، ص 100.
24-متّفق عليه. ينظر: محمّد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح مع شرح ابن حجر العسقلانيّ، تحقيق الشيخ عبد العزيز بن باز، كتاب الزكاة، رقم الحديث 1396،  3/307. واللفظ هنا لمسلم في صحيحه، مرجع سابق، كتاب الإيمان، رقم الحديث 106، 1/126.
25- يقسّم العلماء التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الألوهية(ويسمّيه بعضهم توحيد الإلهية أو توحيد العبادة)، توحيد الربوبية، توحيد الأسماء والصفات. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله تعالى- في حقيقة توحيد الألوهية:‘‘ومن تحقيق التوحيد أن يعلم أنّ الله تعالى أثبت له حقّا لا يشركه فيه مخلوق، كالعبادة والتوكّل والخوف والتقوى’’. العقيدة التدمُرية، 54، الطبعة الثالثة، المطبعة السلفية. وينظر أيضا: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، 27-33، الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والأوقاف بالمملكة العربية السعوديّة، الطبعة الرابعة.

26- محمد محمد أبو موسى (1408هـ-1987م )، دلالات التراكيب دراسة بلاغية، مكتبة وهبة (القاهرة)، الطبعة الثانية، ص 7.

No comments:

Post a Comment